الشعر هو ديوان العرب، والنافذة التي نطل من خلالها على عوالم مدهشة، إذ نستطيع من خلاله قول ما لا نستطيع قوله في صنوف الآداب الأخرى، لكونه يتفرد بتصوير اللحظة التي يعيشها المجتمع، ويعبر عن أحاسيسه، على عكس الرواية التي تحتاج إلى وقت كبير لرصد الظاهرة الاجتماعية من مختلف زواياها وجوانبها، ونجد دليلاً على ذلك في قصائد نزار قباني، فهو حينما يشعر بالحيرة أمام لغزٍ ما يتساءل:
حاولت أسأل ما الأنوثة
ثم عدت عن السؤال
فأهم شيء في الأنوثة
أنها ليست تقال
فقام شاعرنا بتصوير حيرته أمام سؤال صعب قد يؤرقنا كثيراً، وقرب الصورة لأذهاننا، فالأنوثة سر مغلق وطلسم يصعب فك شيفرته.. وحينما يشعر قباني في موضع آخر بالحب يغزو وجدانه يصرخ قائلاً:
إني عشقتك واتخذت قراري
فلمن أقدم يا ترى أعذاري؟
لا سلطة فى الحب تعلو سلطتي فالرأي رأيي والخيار خياري
إنها حالة بوح خاصة؛ فحينما يعشق تنكسر المفردات أمامه. وحينما نراه يتطرق إلى الرثاء في قصيدة له نجد أنفسنا في حالة ذهول لتوظيفه المفردات التي نستخدمها في حياتنا اليومية فأدمعت عيوننا وألهبت أفئدتنا؛ ففى قصيدته «الأمير الدمشقي» يرثي ابنه توفيق الذي مات في ريعان شبابه:
مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات
ومقصوصة كجناح أبيك هي المفردات
فكيف يغنّي المغني
وقد ملأ الدمع كل الدواة
فموتك يا ولدي نكتة
وقد يصبح الموت أقسى النكات
أشيلك يا ولدي فوق ظهري
كمئذنة كُسرت قطعتين
وأذكر حين أراك علياً
وتذكر حين ترانى الحسين..
وفي رثاء زوجته بلقيس التي كانت تعمل في إحدى السفارات وقام مجهولون عرب بتفجير السفارة وهي في داخلها، يقول:
شكراً لكم
شكراً لكم
فحبيبتى قتلت وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت وهل من أمة
فى الأرض إلا نحن نغتال القصيدة؟
يا إلهي.. شاعرنا يشكر من قتلوا حبيبة عمره.. ولكنه ليس شكر الثناء.. بل شكر العار والخزي.. إنه عربي يعشق بلاده ويتغنى بعروبته، وهو أيضاًَ سياسي محنك كتب العديد من القصائد السياسية التي أقامت الدنيا وأقعدتها، فمن منا لا يذكر «المهرولون»، «خبز وحشيش وقمر»، «متى ينعون وفاة العرب».. لكن هل كان شعر نزار حقق هذا الانتشار الواسع لو أنه استخدم مفردات معجمية عصية على فهم القارئ العادي؟ لا أعتقد.. ويبقى الشعر دوماً هو الباب السحري الذى ندلف من خلاله إلى فردوس الكلمات.